الذي يجري في الضفة الغربيّة، ومن يقف وراء الاحتجاجات الواسعة والشعارات الحادّة والاضرابات العامّة؟. هل بدأ الربيعُ الفلسطينيُّ في مواجهة الغلاء ومن أجل الرواتب، كما قال الرئيس أبو مازن، أم أنّ ما يجري مجرد ارتدادات طبيعيّة لزلزال الغلاء العالمي، أم أنّ الأمر صراعٌ على السلطة استغلّ الغلاء والضرائب والبطالة والفقر؟. هل ما يجري "بروفة" لانتفاضة قادمة ضد السلطة أو ضد الاحتلال؟. هل نسي ابن الضفة الاحتلال والعدوان والاستيطان ولم يعد يحركه سوى الهموم المعيشيّة؟.
حتى نستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة، لابد من ملاحظة الالتزام المطلق من السلطة بحريّة التعبير والمظهر الحضاري الذي سلكته الشرطة والأجهزة الأمنيّة إزاء الحراك الاقتصادي، حيث دافع الرئيس ورئيس حكومته عن حق الشعب الفلسطيني في التحرك ولم تعترض الشرطة وأجهزة الأمن ولم تحرك ساكنًا، حتى عندما قام بعض المتظاهرين بقطع الطرق وحرق الإطارات والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة، وبالرغم من أن الشعارات المرفوعة والهتافات التي تتردد طالت بحدة غير مسبوقة برحيل الحكومة ورئيسها ووصفته بأشد الصفات.
ولوحظ أن أوساطًا فاعلة من "فتح" شاركت بفعاليّة، إن لم نقل إنها المحرك الرئيسي للأحداث، ما اعتبره البعض تجديدًا وإصلاحًا في "فتح"، فيما اعتبره البعض محاولة لركب الموجة لحصد الأصوات عشيّة الانتخابات المحليّة، فيما اعتبره آخرون "محاولة نضاليّة" لإلغائها نظرًا للصعوبات التي تواجهها "فتح" في تشكيل القوائم الانتخابيّة، خصوصًا في المدن الرئيسة، ووجود منافسة شديدة لـ"فتح" داخليّة وخارجيّة، وتشكيل عشرات القوائم الخارجة عن القرار المركزي بالرغم من تهديدات اللجنة المركزيّة بفصل كل من يرشح نفسه بشكل فردي.
بالرغم من البعد الاقتصادي المحرك للأحداث، وأن هناك الكثير مما يمكن عمله لتصحيح الخلل والأخطاء للسياسة الاقتصادية والاجتماعية للسلطة، وتخفيف حدة الأزمة عن الفئات الفقيرة والعاطلة عن العمل، إلا أنه لا يمكن تفسير ما يجري إلا بوصفه أحد تجليات الأزمة العامة التي تضرب بأطنابها كل المستويات والقضايا، وأحد أسبابها الخشية الفلسطينيّة بصورة عامة، وخشية الرئيس و"فتح" بصورة خاصة، من تداعيات الربيع العربي، وما رافقه من صعود للإسلام السياسي، خصوصًا في مصر، وما أدى إليه ذلك إلى المزيد من تهميش القضيّة الفلسطينيّة وتحفيز إسرائيل للإسراع في تطبيق المخططات التوسعيّة والاستيطانيّة والعنصريّة، وسط تأكد انهيار "عمليّة السلام"، وغياب أي أفق سياسي لإحيائها على المدى المنظور، وفي ظل الانقسام الفلسطيني المدمر، وانتقاله شيئًا فشيئًا إلى مناطق أخرى وإلى الضفة الغربيّة وقطاع غزة وداخل صفوف "فتح" و"حماس".
إن جذر الأزمة يعود إلى غياب أي رؤية أو خطة أو إستراتيجيّة لدى السلطة أو القيادة أو "حماس" بعد وقف المفاوضات، وانهيار "عمليّة السلام"، وتعليق المقاومة، بحيث أصبح الصراع على القيادة والتمثيل والسلطة يطغى على أي شيء آخر.
وما زاد الطين بلة أن السلطة تبدو مشلولة من دون شرعيّة ولا أفق سياسي، ولا تجد ما تقوله أو تفعله. فخطة بناء المؤسسات وإثبات الجدارة كطريق لإنهاء الاحتلال وصلت سقفها الزمني وفشلت، ولم تجددها السلطة أو الحكومة ولم تطرح خطة جديدة. وشعار تقليص الاعتماد على المساعدات الخارجيّة وصولًا إلى الاستغناء عنها كليًّا في العام 2013 تهاوى في ظل صرخات السلطة التي تتردد حاليًّا لاستدعاء المساعدات الخارجيّة لإنقاذها من الأزمة الاقتصاديّة والماليّة المتفاقمة. وخطة مقاطعة الاستيطان سحبت من التداول مع أنها أحرزت خطوات ملموسة. وغدت المقاومة الشعبيّة شعارًا أكثر ما هي خطة، وأصبحت عبارة عن مظاهرات محليّة في القدس وبعض مناطق (ج) تصطدم مع الاحتلال، ومظاهرات داخل المدن لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تؤثر على الاحتلال شيئًا.
أما خطة التدويل، فتخطو فيها السلطة خطوة إلى الأمام وتعود اثنتين إلى الوراء، فبعد الخطاب التاريخي للرئيس في الأمم المتحدة، الذي كان من المفترض أن يكون البداية وليس النهاية، عدنا إلى نقطة الصفر وأضعنا عامًا كاملًا. وأخذنا نتحدث الآن عن التحضيرات والتشاور مع الدول والمنظمات الإقليميّة، وعن تحديد التوقيت المناسب لعرض مشروع القرار على التصويت للحصول على عضويّة مراقبة لدولة فلسطين من دون إستراتيجيّة متكاملة، ووسط الخشية من التهديدات الأميركيّة والإسرائيليّة بمعاقبة السلطة إذا أقدمت على هذه الخطوة، وبالرغم من أن المقدمات لا تشير إلى توجهنا فعلًا إلى مجابهة مع حكام واشنطن وتل أبيب، وإذا كنا كذلك، فلماذا لا نصارح الشعب بعدم قدرتنا على المجابهة، وما الذي أوصلنا إلى هذا المصير؟، أو لماذا لا نستعد للمواجهة ونحضر الشعب لها، هذا الشعب المستعد للتضحية إذا كان هناك هدف يستحق التضحية وليس من أجل سلطة تبدو فاقدة الاتجاه، وهي أحد الترتيبات التي أقامها الاحتلال لإعفائه من مسؤولياته؟.
السلطة إما أن ترحل أو تعيد النظر في شكلها ووظائفها والتزاماتها؛ لتصبح أداة في يد المنظمة والمشروع الوطني، فلا يكفي تقديم "كبش فداء" إذا كان رئيس الوزراء أو غيره. فالمطلوب تغيير نهج وسياسات وأشكال عمل وأشخاص وعودة إلى المقاومة.
إن خطاب السلطة وأوضاعها وتوتر الأوضاع الداخليّة بين "فتح" و"حماس" والأزمة الاقتصاديّة تجعل الشعب يخشى التدويل وأي مجابهة، لأنه يقف عاريًا من دون مقومات صمود ولا أسلحة، ويواجه أزمة اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة شاملة، فكيف إذا نفذت الإدارة الأميركيّة والحكومة الإسرائيليّة تهديداتهما إذا قدمت السلطة طلب الحصول على العضويّة المراقبة أو إذا فعّلت طلبها للحصول على العضويّة الكاملة.
الحصول على العضويّة المراقبة لوحده لا يعني شيئًا، خصوصًا أن المنظمة حصلت على العضويّة المراقبة منذ عشرات السنين، وإنما يجب أن يكون صدى لمعارك أخرى تجري أساسًا في فلسطين المحتلة، فالدولة لن تقام في نيويوك، وإنما في وديان وجبال وسهول فلسطين، وعندما يصبح الاحتلال مكلفًا جدًا لإسرائيل، وليس كما هو الآن "احتلال خمس نجوم".
ولا يكتمل تفسير ما يجري في الضفة من دون وضعه في سياق الصراع الجاري والمتزايد في الأشهر الأخيرة على السلطة في الضفة وعلى البرنامج الذي يجب اعتماده، بين الرئيس و"فتح" من جهة ورئيس حكومته من جهة أخرى، حيث يضيق أبو مازن ذرعًا أكثر وأكثر من سلام فيّاض، ويبدو أنه يريد التخلص منه ولكنه يخشى العواقب، لأن هذا ليس قرارًا اقتصاديًّا فقط.
كان يبدو أن الفرصة توفرت للتخلص من فيّاض بعد "إعلان الدوحة"، ولكنها ضاعت بانهياره، ويبدو الآن توافر فرصة أخرى، ولكنها معرضة للضياع وسط عناد فيّاض وتمسكه بمنصبه بالرغم من استعداده للاستقالة إذا كانت استقالته هي الحل، فكما قال إنه ليس عنوان الأزمة، وهو ليس موظفًا، وإنما مكلف بمهمة لم تنته، وإنه سيرحل إذا أقاله من عيّنه أو إذا وجد أن الشعب يريد رحيله، وهذا لن يظهر إلا بعد إجراء انتخابات يعبر فيها الشعب عن إرادته الحرة.
كأن لسان فيّاض يقول: إذا أردتم التخلص مني فليطلب الرئيس ذلك بصراحة، أو لتسحب "فتح" الغطاء عني. إن هذا الموقف الذي يتعرض له فيّاض منذ توليه رئاسة الحكومة في عهد الانقسام يسيء إليه ويصعب تفسيره.
فلقد ظهر فيّاض باعتباره العقبة الرئيسيّة أمام إنهاء الانقسام، بالرغم من أنه مجرد عقبة من ضمن قائمة طويلة من العقبات، وكان عليه أن يستقيل استقالة نافذة منذ فترة، على الأقل منذ توقيع اتفاق القاهرة؛ ليدلل على أنه ليس العقبة أمام الوحدة.
ويظهر الآن أكثر وأكثر بوصفه مفروضًا من الخارج، فإذا كان الرئيس لا يريده، وكذلك "فتح" و"حماس"، وليس لديه حزب سياسي قوي يدعمه، فعلى ماذا يستند فيّاض، ولماذا يعاند؟!
الاستغناء عن فيّاض لا يتطلب إطلاق ثورة اقتصاديّة أو توظيفها بعد اندلاعها، بل يمكن أن يقيله الرئيس أو يطلب منه الاستقالة، أو يبادر هو بالاستقالة، لأن الوضع الفلسطيني حرج جدًا، ولا يحتمل المزيد من الصراع على السلطة، ولا محاولة حل الأزمة العامة بحلول جزئية أو تقديم كبش فداء.
من حق فيّاض أن يطمح للعب دور سياسي مستقل ومختلف عن الرئيس و"فتح"، ولكنه لا يستطيع فعل ذلك من موقع منصبه كرئيس للحكومة التي تعتبر حكومة الرئيس وتحظى بشرعيّة ودعم من "فتح".
في كل الأحوال، أُحَذِّرُ من الانزلاق إلى الفوضى بفعل بعض الأطراف الفلسطينيّة أو بانفلات الأمور، وتدخل أطراف أخرى. فهناك فرق حاسم بين حرية التعبير والنضال المطلبي أو الثورة ضد الاحتلال وبين الفوضى، وجربنا واكتوينا بنار الفوضى والفلتان الأمني مرارًا وتكرارًا، وليس هناك داعٍ لتجربة جديدة تأكل الأخضر واليابس، لأن المعطيات المتلاحقة تشير إلى مخطط يرمي إلى إعادة صياغة السلطة لكي تقبل بالمعروض عليها، ولو ارتضى الأمر أن تبقى على حافّة الهاوية حتى تخضع، أو تغيير الرئيس وقياداتها، وإلا فلتذهب إلى الجحيم. هل نعي خطورة ما نواجهه ونستعد لمواجهته بشعب واحد ومؤسسة جامعة وقيادة واحدة ومشروع وطني شامل؟
[ نشر للمرة الأولى في جريدة "الأيام" الفلسطينية و"جدلية" تعيد نشره بالإتفاق مع الكاتب]